تميز النشاط الاقتصادي لهذا المجتمع في بواكيره ونشأته بالتنوع فجمع بين النشاط البري والنشاط البحري- وقد غاص أبناء هذا المجتمع في أعماق البحار بحثا عن اللآلئ- وجابوا البحار في سفن صنعوها بأيديهم- وقاموا بنقل البضائع والتجارة بين موانى الخليج وإفريقيا وساحل الهند ووصلوا إلى كولومبو والبنغال وجزر الهند الشرقية- وقد سجل المؤرخون وقباطنة البحارالأجانب إشادتهم بهذا النشاط البحري كما أشادوا بمتانة السفن الكويتية وكثرتها- فيذكر «كنبهاوزن» المقيم المسؤول لشركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1756م أن الكويت في تلك الفترة المبكرة كانت تمتلك 300 سفينة يعمل عليها 4000 رجل في صيد اللؤلؤ بخلاف سفن صيد الأسماك وسفن التجارة- وأن الكويت قوة بحرية نامية. ويمكن أن ندرك المعدل المتسارع لهذا النمو مما ذكره الرحالة الألماني «كارستن نيبور Carsten Neibuhr بعد ثماني سنــــوات من ذلــك التاريــخ في حديــثه عن رحـلاته إلى الخليج وشبه الجزيرة العربية بين عامي 1764 و1765 حيث وصف ما حققته الكويت من ازدهار- وأن أبناءها أصبحوا يمتلكون أكثر من ثمانمائة سفينة. ويعرب «فاليارس» (1938) صاحب كتاب «أبناء السندباد» ويعني بهم الكويتيين- عن إعجابه بنشاط الكويت البحري- ويذكر: «أن واجهة الكويت البحرية من أبدع ما تقع عليه العين- وهي تمتد إلى مسافة ميلين- مكونة ورشة كبرى لصنع سفن النقل الشراعية- وتزدحم السفن على طول هذه الواجهة في حركة لا تهدأ- وعمل لا ينقطع ترداده» ويصف لنا مسلك البحارة الكويتيين على السفينة ذاكرا: «أنهم يرونها وطنا رغم قسوة العمل وخشونته- ويتسابقون إلى إنجاز أشق الأعمال ركضا في طاعة ورضا ومحبة ليل نهار- وهو نهج لم أره على أي سفينة أخرى إلا في مسلك بحارة الكويت. يقطعون عشرة آلاف ميل بسفنهم وسط العديد من المخاطر دون جلبة أو تذمر- إنهم بحارة إلى النخاع ورجال لا يعرفون الزيف».
ورغم السلطة المطلقة غير المحدودة التي تمنحها التقاليد البحرية للنوخذة (القبطان)- فإن روايات التاريخ وشهادات البحارة تطلعنا على أن النوخذة الكويتي بعامة- كان مثلا في التمسك بالعدل والأمانة- لا يفرط في فلس واحد من حق البحارة أو السفينة أو التاجر الذي ائتمنه عليها- وكان يتعامل مع البحارة بروح الأب الوالد ويعطي القدوة من نفسه- فانعكس ذلك على مجتمع السفينة بهجة تتردد فيها الأغاني التي يصدح بها البحارة- وتعاونا صادقا وبذلا لا حدود له- ونجاحا للرحلة وعائداتها.
وكان الشق الآخر من نشاط مجتمع الكويت في بواكير نشأته يتمثل في النشاط البري الذي سارت به القوافل الضخمة بما تحمله من تجارة ومسافرين إلى دمشق وحلب في الشمال- وكانت القافلة تضم كما ذكر لنا الطبيب الإنجليزي «إدوارد إيفز» عام 1758م في تقريره ـ حيث كان يزمع السفر مع إحدى هذه القوافل ـ خمسة آلاف جمل وألف رجل يقودونها- الأمر الذي يوضح حجم هذا النشاط التجاري البري- كما يوضح مقدار النفوذ السياسي الذي يحظى به حاكم الكويت في داخل الجزيرة العربية وقدرته على تأمين الطريق لتلك القافلة الكبيرة لتصل إلى هدفها النهائي.
وقد كان لهذه الأنشطة الاقتصادية في البر والبحر قبل ظهور النفط آثارها العميقة التي انعكست على مجتمع الكويت في مختلف جوانبه- وصاغت توجهه في رحلة بنائه- فقد أصبح التلاحم والتكافل والتعاون والعمل المشترك واحترام الكلمة والوفاء بها منهجا للحياة- وعلمتهم الشدائد أن الشورى هي الضمان والأساس لوحدة المجتمع وانطلاقه- وأتاحت لهم الرحلات في البر والبحر انفتاحا على مجتمعات وأفكار جديدة ومختلفة- فاكتسبوا مرونة وتفتحا ذهنيا واستعدادا لتقبل كل جديد مفيد-وأصبحوا أكثر قدرة على مواجهة الظروف الطارئة- وتعلموا من المشكلات والمخاطرأن يكونوا واقعيين في معالجة أمورهم وممارسة أعمالهم- فقلَّ بينهم التعصب والتحزب- واتسم مسلكهم الديني باليسر والسماحة.